[ltr]
[/ltr]
Al-Majma Al-Maqdisi
من أعمال الكاتبة المقدسية نزهة رملاوي أقدم لكم مجموعتها القصصية (عشاق المدينة) :
عشاق المدينة -1-
***************
خارج أسوار المدينة في حي الشيخ جراح تسكن أميرة مع عائلتها في بيت جدها الكبير الذي تحيط به أشجار السرو والزيتون وبعض أشجار الحمضيات والتفاح، جلست أميرة على المقعد الخشبي امام نافورة الماء التي تحيطها الأزهار الملونة، وأخذت تفكر كيف تواجه خطيبها حسن بقرار الانفصال، خرجت من المنزل حزينة كئيبة، وسارت في الطريق المؤدية الى وسط المدينة، قالت في قرارة نفسها وبدت نظراتها أكثر تعمقاً وأكثر تعلقا بملامح الأمكنة والطرقات: حتما سأعود الى المدينة يوما، ربما افارقها لأيام أو سنين، لكني سأعود اليها يوما، ورأت ان تنفرد في إحدى الزوايا، لتهرب من فوضوية المكان ونظرات المارة، سارت بهدوء في شارع صلاح الدين، وأخذ داخلها يتنفس الهواء المقدسي بشدة، رغم تلوثه بدخان السيارات وزحمة المارة وأصوات البائعين الا انه الهواء المعشوق في قلب العاشقة، رائحة القهوة والبهارات تلطف الأجواء بعض الأحيان، والنعنع والخضرة الممتدة أمام الفلاحات ترسم لها الصورة بدقة وبجمالية فوق الأرصفة، وهذه الأقواس المنحنية في يسار الشارع تقف شامخة رغم تبديل الوجوه وانكسارات الزمن والوجع المتكرر في هذا الوقت العصيب.
بدأت الدموع تتدحرج من عينيها، وأخذت تلملم ما استطاعت منها، وتمسحها دون ملاحظة الآخرين قدر الاستطاعة .....سألت نفسها الى أين أذهب ؟
مشت، أيقنت ان الطريق تأخذها لشركة الكهرباء، وقفت أمام الشباك تنتظر آخر المراجعين عند حسن .
ألقت أميرة السلام فأجاب حسن : أهلا أهلا حبيبتي كيفك حالك؟ لم تخبريني أنك قادمة .
أجابت : الحمد لله بعد انتهائك من العمل نتكلم .
أجاب حسن : هيا نذهب لنحتسي قهوة أو بعضا من العصير، وتابع قائلا : أراك حزينة ما بك؟
أم انك متوترة لاقتراب موعد الزفاف والرحيل؟
أجابت : لا أستطيع الرحيل معك الى قطر يا حسن والاستقرار هناك، لقد حاولت جاهدة إقناع نفسي لكني أخفقت في ذلك .
ذهل حسن من الموقف وخيم الصمت ....وبدأ داخل أميرة بالصراخ ونادى مستغيثا :
يا الهي! كيف بي ان أترك المدينة الحبيبة وهي المحفورة في قلبي، وعقلي؟
وكيف لي ان اترك حبيبي حلم صبايا وبلسم روحي ؟؟؟؟؟
كيف بي رمي حبي نحو الهاوية وبلا تردد ؟؟؟؟
لا....مستحيل...أكاد أشعر بأنّ رأسي ينفلق الى نصفين....مستحيل!
كيف لي ان اترك البيوت والعبق الساحر في الارجاء المقدسة ؟؟؟
كيف أترك الحارة ، والشارع والقنطرة..؟؟؟
قطع حسن أفكارها وسألها: ماذا ؟ ولماذا؟ هل علم احد بذلك ؟ هل أخبرت أهلك بهذا القرار ؟
قالت : جئت إليك بعد أن مهدت لأهلي ذلك إسمعني ....أتعرف ما تعنيه القدس لي؟وحب القدس وعشق القدس داخلي، فلطالما تغنيت بمعالمها وحيطانها وأزقتها وحاراتها ورائحتها، فهي الساحرة التي تأسر العيون بجمالها والسلطانة التي تحكم القلوب بعشقها الأبدي ، وهذا حالي يا حسن ، لا تستغرب ، فلقد تيقنت اني لا أستطيع التنفس بهواء غير هوائها ، ولا أستطيع النوم الا بين أحضانها ، ولا أستطيع النمو الا تحت شمسها ، ولا السمر الا بين نجومها وقمرها ، ولا أستطيع سماع شيء الا سماع مآذنها وأجراس كنائسها..... ماؤها سر وجودي وأسوارها وآثارها عنواني وتاريخي رغم تزييف العناوين ، والعبث بأصالتها إلا أنها الشامخة في عصرالإنكسار والإنهزام، أحبها ولا أستطيع ان أعيش في بلد آخر .
أجابها حسن والدموع تختنق خلف جفونه : كلنا نحب القدس، ولكن هل احببت القدس اكثر مني ؟ واكثر من حلمنا بالثراء والنعيم هناك؟ لقد انتهوا من إجراء المعاملات لنا، وعمي هناك صاحب شركة تجارية معروفة دعاني لأكون مديرها ما بك يا أميرة؟ هل تخليت عني؟ هل حبك للمدينة والبقاء فيها جعلك تفكرين بالانفصال؟ هل نسيت حلمنا بالاستقرار والعيش الرغيد ؟
قالت وقد تنهدت بعمق : نعم أكثر وأكثر من أي وقت مضى، أحس أني ما خلقت للابتعاد عنها، بل خلقت للحياة والموت فوق ثراها، أتشعر بحالي يا حسن ؟
سار العاشقان ودخلا باب الساهرة وانتهى بهما المطاف في بيت الطبيب عبدالله ( والد حسن ) في حارة السعدية في البلدة القديمة، فأخبرته أميرة بقرارها اللامتردد في الانفصال إذا ما صمم حسن بالإبتعاد عن المدينة.
غاب أبو حسن عن الحاضرين بأفكاره، طأطأ رأسه ووضعه بين يديه وبدأت صور الماضي تتهاوى وتمتزج بنفس الشعور ونفس الكلمات كما لو ان الأمس هو اليوم، فقد حظي ببعثة الى ألمانيا لدراسة الطب مع إمكانية العمل والاستقرار هناك عند أقربائه، لكنه رفض بعد حصوله على الدكتوراه البقاء هناك للسبب ذاته، حب القدس لا يستطيع الإبتعاد عنها، وهو دائم الشكر لله انه ابن لها، وراحت أعماقه تصرخ: انا ابن القدس معجون من تربتها، مروي من سبلها، طائر في فضائها رغم تلوث المكان والزمان بالتزييف والتحريف وكتابة الأساطير الكاذبة، فالأصل في الكتابة محفور في صخرها في كل حجر بنى أسوارها وزقاقها، مداخلها ومخارجها، حاراتها وقناطرها.
إني ارى نورا يشع من روحها المقدسة فيحضن كل العاشقين، وأسمع من نوافذ بيوتها حكايات تخطف أنظار المارة وأسماعهم وتعرج بها الى النجوم فوق القناطر العتيقة.
اما أبوابها فلها قصص احتفظت بأصوات البشر هنا وكتبتها على حجارة الحارات وأقواسها.
ولشمسها معنى آخر يعني نهار البقاء في عصر التهجير، وعلى أسطح منازلها يكتب العشاق أشعار وفاء ومحبة، ممزوجة من الدمع والأشواق، كزهر ياسمين ينام على حيطانها بدلال، يرسم من رائحته الف قصة حب مقدسية نشتمها كلما هبت نسائم الذكريات .
وللأسواق والخانات والتكايا فيها معانٍ اخرى غير التي تعرف، لا يعرف معناها إلا العاشق، يعجز اللسان عن الكلام أمام قداستها وعظمتها وشموخها وعزها وانتصاراتها وتحدياتها وهدوئها وانفعالاتها وغضبها وابتساماتها، هي المعشوقة عبر العصور، ونحن عشاقها المتيمون بفجرها الذي يعانق عبق التاريخ وبشمسها التي تتوج معالم الحضارة.
رفعت أميرة رأسها من بين ذراعيها وقالت: لا ادري أي عشق يهدى الى عشقها اللامتناهي ؟؟؟؟
وراحت نظراتها الى حسن وسألته: أما زلت تفكر بالرحيل عن المدينة؟؟؟
#نزهة_الرملاوي15/8/2014
#المَجمع_اللغوي_المَقدسي[ltr]
[/ltr]